فصل: قال الثعلبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الثعلبي:

{يَا أَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفًا} أي مخفقين متزاحفين بعضكم إلى بعض والتزاحف التداني والتقارب.
قال الأعشى:
لمن الضعائن سيرهن زحيف ** عرم السفين إذا تقاذف مقذف

والزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم: قوم عدل ورضى {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} يقول: فلا تولّوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم ولكن اثبتوا لهم. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا}
والزحف: الدنو قليلًا قليلًا.
{فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} يعني بالهزيمة منهم والانصراف عنهم. وفيه قولان:
أحدهما: أن هذا على العموم في تحريم الهزيمة بعد لقاء العدو.
والثاني: مخصوص وهو أن الله تعالى أوجب في أول الإِسلام على كل رجل من المسلمين أن يقف بإزاء عشرة من المشركين لا يحل له بعد اللقاء أن ينهزم عنهم وذلك بقوله: {إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابرُونَ يَغْلِبُواْ مِائَتَينِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةُ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِنَ الَّذينَ كَفرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] وفيه وجهان:
أحدهما: لا يعلمون ما فرضه الله تعالى عليه من الإسلام.
الثاني: لا يعلمون ما فرضه الله تعالى عليهم من القتال.
ثم نسخ ذلك عنهم بعد كثرتهم واشتداد شوكتهم فأوجب الله تعالى على كل رجل لاقى المشركين محاربًا أن يقف بإزاء رجلين بعد أن كان عليه أن يقف بإزاء عشرة تخفيفًا ورخصة وذلك قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُم ضَعْفًا}.
قرئ بضم الضاد وفتحها، وفي اختلاف القراءتين وجهان:
أحدهما: أنهما لغتان ومعناهما واحد، قاله الفراء.
والثاني: معناهما مختلف.
وفي اختلافهما وجهان:
أحدهما: أنها بالفتح: الضعف في الأموال، وبالضم: الضعف في الأحوال.
الثاني: أنها بالفتح: الضعف في النيات، وبالضم: الضعف في الأبدان. وقيل بعكس الوجهين في الوجهين.
ثم قال: {فَإِن يَكُن مِّنكم مَّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مَائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ ألْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَينِ بِإِذنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} فيه تأويلان:
أحدهما: مع الصابرين على القتال في معونتهم على أعدائهم.
الثاني: مع الصابرين على الطاعة في قبول عملهم وإجزال ثوابهم، فصار حتمًا على من لاقى عدوه من المشركين زحفًا أن لا ينهزم مع القوة على المصابرة حتى يقضي الله من أمره ما شاء فأما الهزيمة مع العجز عن المصابرة فإن قاتله أكثر من مثليه جاز أن يُولي عنهم منهزمًا، وإن قاتله مثلاه فمن دون حرم عليه أن يوليّ عنهم منهزمًا على صفتين: إما أن يتحرف لقتال وهو أن يهرب ليطلب، ويفر ليكر فإن الحرب كرٌ وفرٌ، وهرب وطلب، وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى ليقاتل معها، قربت الفئة أو بعدت، وذلك ظاهر في قوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَومَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ}. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفًا} الآية، {زحفًا} يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي يزحف بعضهم إلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الألية ثم سمي كل ماش إلى آخر في الحرب رويدًا زاحفًا، إذ في مشيته من التماهل والتباطؤ ما في مشي الزاحف، ومن الزحف الذي هو الاندفاع قولهم لنار العرفج وما جرى مجراه في سرعة الاتقاد نار الزحفتين ومن التباطؤ في المشي قول الشاعر: [البسيط]
كأنهنَّ بأيدي القومِ في كَبدٍ ** طير تكشف عن جون مزاحيف

ومنه قول الفرزدق: [البسيط]
على عمائمنا تُلقى وأرجلنا ** على مزاحيف تزجى مخها رير

ومنه قول الآخر الأعشى: [الطويل]
لمن الظعائن سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ

ومن التزحف بمعنى التدافع قول الهذلي: [الوافر]
كان مزاحف الحيّات فيه ** قبيل الصبح آثار السباط

وأمر الله عز وجل في هذه الآية أن لا يولي المؤمنون أمام الكفار، وهذا الأمر مقيد بالشريطة المنصوصة في مثلي المؤمنين، فإذا لقيت فئة من المؤمنين فئة هي ضعف المؤمنة من المشركين فالفرض أن لا يفروا أمامهم، فالفرار هناك كبيرة موبقة بظاهر القرآن والحديث وإجماع الأكثر من الأمة، والذي يراعى العدد حسب ما في كتاب الله عز وجل: وهذا قول جمهور الأمة، وقالت فرقة منهم ابن الماجشون في الواضحة: يراعى أيضًا الضعف والقوة والعدة فيجوز على قولهم أن تفر مائة فارس إذا علموا أن عند المشركين من العدة والنجدة والبسالة ضعف ما عندهم، وأمام أقل أو أكثر بحسب ذلك وأما على قول الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا أمام ما زاد على مائتين والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة، لأنها بشعة على الفار ذامة له. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا}
الزحف: جماعة يزحفون إلى عدوهم؛ قاله الليث.
والتزاحف: التداني والتقارب، قال الأعشى:
لِمَنِ الظَّعَائِنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّف

قال الزجاج: ومعنى الكلام: إذا واقفتموهم للقتال فلا تُدبروا. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)} فيه سبع مسائل:
الأُولى: قوله تعالى: {زَحْفًا} الزحف الدنوّ قليلًا قليلًا.
وأصله الاندفاع على الألْيَة؛ ثم سُميّ كل ماشٍ في الحرب إلى آخر زاحفًا.
والتزاحف: التداني والتقارب؛ يقال: زحف إلى العدوّ زحفًا.
وازدحف القوم، أي مشى بعضهم إلى بعض.
ومنه زِحاف الشعر، وهو أن يسقط بين الحرفين حرف فَيزْحَف أحدهما إلى الآخر.
يقول: إذا تدانيتم وتعاينتم فلا تفِرّوا عنهم ولا تعطوهم أدباركم.
حرّم الله ذلك على المؤمنين حين فرض عليهم الجهاد وقتال الكفار.
قال ابن عطية: والأدبار جمع دُبُر.
والعبارة بالدبر في هذه الآية متمكنة الفصاحة؛ لأنها بشعة على الفارّ، ذامّة له.
الثانية: أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولي المؤمنون أمام الكفار.
وهذا الأمر مقيَّد بالشريطة المنصوصة في مِثْلَي المؤمنين؛ فإذا لقِيت فئة من المؤمنين فئة هي ضِعف المؤمنين من المشركين فالفرض ألا يفِرّوا أمامهم.
فمن فرّ من اثنين فهو فارّ من الزحف.
ومن فرّ من ثلاثة فليس بفارّ من الزحف، ولا يتوجّه عليه الوعيد.
والفرار كبيرة مُوبِقة بظاهر القرآن وإجماع الأكثر من الأئمة.
وقالت فرقة منهم ابن الماجِشون في الواضحة: إنه يراعى الضعف والقوّة والعدّة؛ فيجوز على قولهم أن يفِرّ مائة فارس من مائة فارس إذا علموا أن ما عند المشركين من النجدة والبسالة ضعفُ ما عندهم.
وأما على قول الجمهور فلا يحل فِرار مائة إلا مما زاد على المائتين؛ فمهما كان في مقابلة مسلم أكثر من اثنين فيجوز الانهزام، والصبر أحسن.
وقد وقف جيش مُؤْتَة وهم ثلاثة آلاف في مقابلة مائتي ألف، منهم مائة ألف من الروم، ومائة ألف من المستعربة من لَخْم وجُذَام.
قلت: ووقع في تاريخ فتح الأندلس، أن طارقًا مولى موسى بن نصير سار في ألف وسبعمائة رجل إلى الأندلس، وذلك في رجب سنة ثلاث وتسعين من الهجرة؛ فالتقى ومِلك الأندلس لذريق وكان في سبعين ألف عِنان؛ فزحف إليه طارق وصبر له فهزم الله الطاغية لذريق، وكان الفتح.
قال ابن وهب: سمعت مالكًا يسأل عن القوم يلقون العدوّ أو يكونون في محرس يحرسون فيأتيهم العدوّ وهم يسير، أيقاتلون أو ينصرفون فيؤذنون أصحابهم؟ قال: إن كانوا يقوون على قتالهم قاتلوهم، وإلا انصرفوا إلى أصحابهم فآذنوهم.
الثالثة: واختلف الناس هل الفرار يوم الزحف مخصوص بيوم بدر أم عام في الزحوف كلها إلى يوم القيامة؟ فروي عن أبي سعيد الخدرِيّ أن ذلك مخصوص بيوم بدر، وبه قال نافع والحسن وقتادة ويزيد بن أبي حبيب والضحاك، وبه قال أبو حنيفة.
وأن ذلك خاص بأهل بدر فلم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحازوا لانحازوا للمشركين، ولم يكن في الأرض يومئذ مسلمون غيرهم، ولا للمسلمين فئة إلا النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فأما بعد ذلك فإن بعضهم فئة لبعض.
قال الكِيا: وهذا فيه نظر؛ لأنه كان بالمدينة خلق كثير من الأنصار لم يأمرهم النبيّ صلى الله عليه وسلم بالخروج ولم يكونوا يرون أنه قتال، وإنما ظنوا أنها العِير؛ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن خف معه.
ويروى عن ابن عباس وسائِر العلماء أن الآية باقية إلى يوم القيامة.
احتج الأوّلون بما ذكرنا، وبقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ} فقالوا: هو إشارة إلى يوم بدر، وأنه نسخ حكم الآية بآية الضعف.
وبقي حكم الفِرار من الزحف ليس بكبيرة.
وقد فرّ الناس يوم أُحد فعفا الله عنهم، وقال الله فيهم يوم حنين {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] ولم يقع على ذلك تعنيف.
وقال الجمهور من العلماء: إنما ذلك إشارة إلى يوم الزحف الذي يتضمنه قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمُ}.
وحكم الآية باقٍ إلى يوم القيامة بشرط الضعف الذي بينه الله تعالى في آية أُخرى، وليس في الآية نسخ.
والدليل عليه أن الآية نزلت بعد القتال وانقضاء الحرب وذهاب اليوم بما فيه.
وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبِقات وفيه والتولي يوم الزحف» وهذا نص في المسألة.
وأما يوم أُحد فإنما فرّ الناس من أكثر من ضعفهم ومع ذلك عنفوا.
وأما يوم حنين فكذلك من فرّ إنما انكشف عن الكثرة؛ على ما يأتي بيانه.
الرابعة: قال ابن القاسم: لا تجوز شهادة من فرّ من الزحف، ولا يجوز لهم الفِرار وإن فرّ إمامهم؛ لقوله عز وجل: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} الآية.
قال: ويجوز الفِرار من أكثر من ضعفهم، وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفًا؛ فإن بلغ اثني عشر ألفًا لم يحِل لهم الفِرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولن يغلب اثنا عشر ألفًا من قِلة» فإن أكثر أهل العلم خصّصوا هذا العدد بهذا الحديث من عموم الآية.
قلت رواه أبو بشر وأبو سلمة العامليّ، وهو الحكم بن عبد الله بن خُطّاف وهو متروك.
قالا: حدّثنا الزهرِيّ عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أكْثَم بن الجَوْن اغز مع غير قومك يحسن خلقك وتكرم على رفقائك.
يا أكثم بن الجون خير الرفقاء أربعة وخير الطلائع أربعون وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى اثنا عشر ألفًا من قِلة»
وروى عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه وهو قوله للعُمَرِيّ العابد إذْ سأله هل لك سعة في ترك مجاهدة من غيّر الأحكام وبدّلها؟ فقال: إن كان معك اثنا عشر ألفًا فلا سعة لك في ذلك.
الخامسة: فإن فرّ فليستغفر الله عز وجل.
روى الترمذِيّ عن بلال بن يسار بن زيد قال: حدّثني أبي عن جدّي سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: «من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحيّ القيوم وأتوب إليه غفر الله له وإن كان قد فرّ من الزحف» قال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
السادسة: قوله تعالى: {إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ} التحرف: الزوال عن جهة الاستواء.
فالمتحرف من جانب إلى جانب لمكايد الحرب غير منهزم؛ وكذلك المتحيز إذا نوى التحيز إلى فئة من المسلمين ليستعين بهم فيرجع إلى القتال غير منهزم أيضًا.
روى أبو داود عن عبد الله بن عمر أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، قال: فلما برزنا قلنا كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب.